ذكرنا في مقالات سابقة أن القطاع العام ما يزال يعاني من التضخم، فهو يتألف من ما يقارب (130) دائرة حكومية (وزاره، دائره، مؤسسة، هيئة، سلطة، صندوق، مجلس يأخذ صفة المؤسسة، ومجلس لا يأخذ صفة المؤسسة، شركة مملوكة...الخ)، ويعمل في هذا القطاع (206) مائتان وستة الآف موظف وموظفة على نظام الخدمة المدنية، و(174) ومائة وأربعة وسبعون الف موظف وموظفة يعملون في المؤسسات غير المشمولة بنظام الخدمة المدنية. ووفقاً لتقرير حالة البلاد الصادر عن المجلس الاقتصادي والاجتماعي لعام 2019، فقد بلغ مجموع موظفي القطاع العام (380) ثلاثمائة وثمانين ألف موظف وموظفة، وبنسبة وصلت إلى (3.7%) من إجمالي عدد السكان.
وكتبت في مقالات سابقة موصياً بترشيق حجم الحكومة، ومختلف مؤسساتها المستقلة، من خلال إعادة تنظيم الوزارات على مبدأ جمع المهام والأنشطة المتماثلة، ومنع الازدواجية دون الإخلال بمبدأ الفاعلية، وبينت أنه يمكن الاستفادة من التجارب الدولية في هذا المجال؛ كالتجربة الصينية، واليابانية، والبريطانية وغيرها.
ويبدو لي أن تحدي الوضع المالي الذي تواجهه الدولة بسبب جائحة كورونا، تجعل الحكومة ملزمة أكثر بالاستجابة لتحقيق الرشاقة المؤسسية في كافة مجالات عملها؛ وهذا يعد من أهم الأمور التي تؤهل أجهزة القطاع العام ليكون أكثر مرونة وفاعلية وبأقل التكاليف. ولا يمكن مواجهة التحدي بوجود جهاز إداري ضخم وإنتاجية متدنية. أشار تقرير حالة البلاد الصادر عن المجلس الاقتصادي والاجتماعي عام 2018، إلى دراسة أجريت عام 2012، وقد بينت الدراسة أن المعدل العام لعدد ساعات العمل المنتج لدى موظفي القطاع العام هو أربع ساعات يوميا كحد أقصى، مما يؤشر بالطبع إلى ارتفاع نسبة البطالة المقنعة في القطاع العام، قبل جائحة كورونا، وقبل استخدام منصات تقديم الخدمة عن بعد؛ مما يعني إمكانية الدولة الاستغناء عن (40%) من موظفي القطاع العام كحد أدنى، في ظل الدمج والحكومات الإلكترونية.
تساؤل طبيعي يثور هنا: هل تلجأ الحكومة الى إتخاذ قرار بتخفيض (40%) من موظفي القطاع العام دفعة واحدة؟، لا أعتقد أن أي خبير في ادارة الموارد البشرية سيوافق على ذلك! فمثل هذا القرار لن يجد القبول، وستكون له مخاطر اجتماعية وسياسية عالية جداً.
ومن هنا فإنني اقترح على الحكومة حلولاً تتعلق بتطبيق منهجية ناعمة لإعادة الهيكلة تعتمد على عدة خطوات:
- حصر جميع الموظفين الذين إستكملوا شروط استحقاق راتب التقاعد المبكر، أو الاستيداع، ومن ثم يصار الى تقييم أداء هذه الشريحة من لجان تقييم محايده قد يشترك بعضويتها مندوبين من ديوان الخدمة المدنية أو ديوان المحاسبة ومن يقرر مجلس الوزراء من خبراء التقييم.
- يجري التقييم باستخدام تقديرات توضع لهذا الهدف، وبعده يُصار إلى إحالة الموظفين ذوي الأداء المتدني (دون المستوى المطلوب) إلى الاستيداع، أو التقاعد، أو التقاعد المبكر، وفقاً لمقتضى الحال، ووفقاً للتشريعات النافدة.
- يمنح الموظفون الذين يكون أدائهم ضمن المطلوب، حوافز لتشجيعهم على التقاعد من خلال الترفيع للدرجة الأعلى، واحتساب الزيادة السنوية الأعلى لسنتين سابقتين للمشمولين بأحكام قانون الضمان الاجتماعي، للاستفادة منها في احتساب رواتبهم التقاعدية، وبكل الأحوال يجب إحالتهم على التقاعد عند إستكمالهم شروط إستحقاق الراتب التقاعدي، مع الحوافز المقدمة، أو إكمالهم مدة (25) عاماً قابلة للتقاعد كحد أقصى.
- يستثنى من الإحالة على التقاعد شريحة الموظفين ذوي الأداء العالي (أعلى من المستوى المطلوب)، شريطة أن لاتزيد نسبتهم عن (1%) من موظفي الدائرة، وأن تقدم الدائرة معززات تثبت ذلك مع تنسيب من لجنة التقييم المعتمدة، ويستمروا بالعمل لغاية إكمال السن القانونية (60) للرجل و(55) للمرأة مهما بلغت سنوات خدمتهم.
- تطبق هذه السياسة على كافة موظفي القطاع العام بما فيهم المؤسسات غير المشمولة بنظام الخدمة المدنية، وموظفي أمانة عمان، والبلديات، والإداريين في الجامعات الرسمية.
- تعزيزاً لسياسة تخفض أعداد موظفي القطاع العام،فإنه يمكن للحكومة إصدار قرارات بمنح موظف القطاع العام، بما في ذلك أعضاء هيئة التدريس في الجامعات الرسمية، الحق في الحصول على إجازة دون راتب للمدة التي يطلبها، وكذلك منح الموظف الحق في الحصول على إعاره لمدة لاتقل عن (5) سنوات لأي جهة خاصة أو عامة، داخل أو خارج المملكة، كما يمكن للحكومة تسهيل عملية إنتقال موظفي القطاع العام للشركات المملوكة للحكومة؛ وفقا لاحتياجاتها السنوية، على أن يبقى معارا للمدة التي توافق عليها هذه الشركات.
وتعزيزا لهذه السياسة فقد يكون من المناسب تخفيض ساعات الدوام لبعض الموظفين ببعض الدوائر أو تخفيضها بدوائر معينة بالكامل، كما يتطلب تطبيق هذه السياسة التدرج والمرونة؛ بمعنى أن نسبة الإحالات تتزايد بشكل سنوي ، إضافة إلى تخفيض سن التقاعد أيضاً للشريحة التي يقع أداء موظفيها ضمن المستوى المطلوب، مع تخفيض نسبة إستمرارية ذوي الأداء المرتفع لتصبح (50%) من المستهدف خلال السنوات الثلاثة القادمة، وبعدد يحدده مجلس الوزراء بناء على تنسيب من لجنة تقييم محايدة يعتمدها لهذه الغاية.
كما ويتطلب الأمر إعادة توزيع موظفي القطاع العام وفقا للاحتياج الحقيقي للعاملين، ووضع خطة تأهيلية لذوي الأداء المتدني للإستفادة منهم في تعويض وقف عملية التوظيف لمدة لا تقل عن عامين، بإستثناء الخبرات النادرة التي تتطلبها عملية التطوير والابتكار في أعمال الحكومة، وهنا اقترح الاستفادة من الكفاءات الوطنية النوعية المهاجرة، والتي قد تعود للوطن بسبب ظروف المرحلة لرفد القطاع العام بخبرات نوعية في الإبتكار والتميز المؤسسي.
د. عبدالله محمد القضاه
أمين عام وزارة تطوير القطاع العام ومدير عام معهد الإدارة العامة سابقًا